بحث متقدم
الزيارة
8303
محدثة عن: 2008/09/28
خلاصة السؤال
ما معنى أن الله سبحانه ینسى بعض عباده؟
السؤال
ذکر فی بعض الآیات أن الله سبحانه ینسى عدة من عباده فی الدنیا و الآخرة، و هل أن الله ینسى؟
الجواب الإجمالي

نسب الله سبحانه نسیان العباد إلى نفسه أربع مرات فی القرآن الکریم کما جاء فی الآیة: "الیوم ننساهم...". و هذه الآیة و غیرها من الآیات تؤید کون الله سبحانه ینسى بعض عباده فی الدنیا و الآخرة و لکن ما معنى النسیان فی الآیة؟ الأدلة العقلیة و الکلامیة الموجودة فی المصادر و المراجع الإسلامیة تنفی مفهوم النسیان بمعنى عدم الإحاطة بالمخلوقات عن الساحة الإلهیة المقدسة، و کما جاء فی کلامه سبحانه: "لا یضل ربی و لا ینسى"، و الواضح من کلام المعصومین (ع) أن المراد بالنسیان المنسوب إلى الله لیس الغفلة و عدم العلم و الاطلاع، لأن الله سبحانه مطلع على کل شیء خفی. بل المقصود منع الرحمة الإلهیة اللائقة بهم و اهمالهم، یقول الإمام علی (ع): "نسیان الله یعنی حرمان العبد من الخیر". إذن ما ورد من النسیان المنسوب لله سبحانه یعنی ترک العبد و حاله و رفع ید العنایة الإلهیة عنه، و ینتج عن ذلک أن ینسى العبد نفسه و ینشغل بالدنیا، و بعبارة أخرى، أن نسیان الله للعبد هو انعکاس و نتیجة تکوینیة لنسیان العبد نفسه و عدم توجهه لأمور دینه.

الجواب التفصيلي

فی البدایة نتعرض إلى الآیات ذات العلاقة بالسؤال المذکور، ثم نجیب عنه من خلال الأدلة العقلیة و القرآنیة و الروائیة. نتوجه فی البدایة إلى شرح السؤال و من ثم نشرع برفع الإبهام و الغموض و التناقض، هناک آیات قرآنیة یمکن أن تشکل أرضیة لطرح السؤال القائل: هل أن الله ینسى عدداً من عباده؟. و الآیات کالآتی:

1. "فالیوم ننساهم کما نسوا لقاء یومهم هذا".[1]

2. "و قیل الیوم ننساکم کما نسیتم لقاء یومکم هذا".[2]

3. "قال کذلک أتتک آیاتنا فنسیتها و کذلک الیوم تنسى".[3]

4. "نسوا الله فنسیهم".[4]

و فی هذه الآیات یظهر بوضوح أن الله سبحانه سوف ینسى عدداً من عباده. الآیات الثلاث الأول یتعلق النسیان فیها بیوم القیامة، و الآیة الرابعة یقولون ان النسیان فیها مرتبط بالحیاة الدنیا.

و السؤال الذی یطرح للوهلة الأولى: هل أن الله سبحانه یمکن أن ینسى؟ و هل من الممکن أن تنسب إلیه صفة النسیان «بمعنى عدم حضور أمر عند الله؟» و ثانیاً إذا کان الأمر هکذا فما هی الکیفیة التی یکون علیها النسیان؟ و هل یمکن تفسیر النسیان «بعدم حضور الأشیاء عند الله؟» إن عقائد الإسلام و حقائق الدین التی تبتنی على الاستدلال تسلب جمیع الصفات «السلبیة» عن الله تعالى و من جملتها النسیان بهذا المعنى المتعارف، و إنه سبحانه یتمتع بدرجات الکمال و العلم و مبرئ من کل نقص و فقدان، و ذلک ما أثبت بالتفصیل فی کتب العقائد و الکلام المعتبرة و بأدلة عقلیة و فلسفیة، و إن بیان ذلک خارج عن خطة هذا البحث الموجز.[5]

و إن القرآن المجید ینزه الله سبحانه مرات عدیدة من هذا النقص حیث یقول: "و ما کان ربک نسیّا".[6] و یقول فی مکان آخر: "لا یضل ربی و لا ینسى"،[7] و بحسب هذه الآیات فإن النسیان صفة لا سبیل لها إلى ساحة الباری المقدسة. و السؤال هنا: فما معنى الآیات التی تنسب النسیان إلى الله سبحانه و کیف یکون تفسیرها؟

إن روایات المعصومین دائماً ما تکون حلاً للعقد و المشکلات و تفسیراً للآیات القرآنیة. و هنا نجدها تزیل هذا التوهم. فقد جاء فی حدیث الإمام الرضا (ع) فی تفسیر الآیة: "الیوم ننساهم.."، ننساهم أی نترکهم لأنهم ترکوا القیامة و الاستعداد لها، فالیوم نترکهم و شأنهم.[8]

فلابد أن ننتبه إذن الى أن النسیان یعنی رفع الید و الحرمان من الرحمة و اللطف الإلهی.

و کذلک قال الإمام علی (ع) فی هذا الشأن: "نسیان الله یعنی الحرمان من الخیر".[9] و هذا عمل حکیم مطابق للعدالة و یطابق عمل أصحاب النسیان و مثل هؤلاء کمثل الطالب الذی یهمل دروسه و لا یعیر أی اهتمام لما یقوله الأستاذ و یتخذ من الدرس لهواً و لعباً و هزواً، فإنه عندما یقع فی معاناة و تردد و حیرة کنتیجة لما کان یعمل لا یلتفت إلیه الأستاذ و إنما یترکه و شأنه، و لا یولیه أی اهتمام و لا یسدی له أی مساعدة فی أیام الامتحان، و لابد من التوجه إلى أن هذا اللون من انقطاع الرحمة الإلهیة عن عباده مشروط و ذلک حینما ینسى العبد ربه، و یتخذ آیاته هزواً و لعباً، و یکون مشغولاً و مغروراً بدنیاه.[10]

أی أن الله یجازی النسیان بالنسیان، و کما قال تعالى بالنسبة إلى التذکر حیث قال: "اذکرونی أذکرکم...".[11]

و علیه عندما ینسب تعالى النسیان إلى نفسه فی القرآن من جهة، و من جهة أخرى فإن الثابت بالعقل و بالآیات القرآنیة أن النسیان بالمعنى المتعارف الذی یحصل من الغفلة و عدم الاطلاع لا وجود له فی ساحة الإله الکامل المطلق «عالم الغیب» الذی لا یعزب عنه مثقال ذرة،[12] إذن فالمراد من النسیان المنسوب إلیه تعالى یعنی عدم الاعتناء و صرف النظر و رفع العنایة و الحرمان من الخیر و الرحمة. نأمل أن نوفق إلى التدبر فی آیات القرآن الکریم و فهم معانیها لعل الله یغمرنا برحمته و عنایته.



[1] الأعراف، 51.

[2] الجاثیة، 34.

[3] طه، 126.

[4]  التوبة 67.

[5] القول السدید فی شرح التجرید، ص 274 و ما بعدها؛ والعقائد الإسلامیة، الفصول 15 ـ 22.

[6] مریم، 64.

[7] طه، 52.

[8] تفسیر النور استناداً إلى نور الثقلین.

[9] تفسیر النور استناداً إلى تفسیر البرهان، التوبة 67.

[10] الأعراف، 51؛ الجاثیة، 34 و 35.

[11] البقرة، 52، "فاذکرونی أذکرکم".

[12] سبأ، 3، "عالم الغیب لا یعزب عنه مثقال ذرة فی السموات و لا فی الأرض و لا أصغر من ذلک و..".

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

التصنیف الموضوعی

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    280259 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    258835 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    129631 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    115649 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    89557 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    61041 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    60369 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    57377 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    51625 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47715 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...