Please Wait
7480
الفناء فی اللغة: یعنی الانعدام و التلاشی، و هو یقابل البقاء، الذی یعنی الثبات و الدوام، فالله سبحانه مثلاً من مقولة البقاء بینما تکون سائر الموجودات من مقولة الفناء و التلاشی.
الفناء اصطلاحاً: معناه تجاهل النفس و عدم رؤیتها، و لیس ذلک بمعنى الاغتراب عن النفس، و إنما یعنی أن لا یرى الإنسان لنفسه أی وجود فی ساحة حضور القدس الإلهی، و أنه ینشغل عن کل وجود غیر الله سبحانه.
مقام الفناء باصطلاح أهل العرفان: یطلق لفظ (المقام) فی العرفان و یراد به المنزلة و المرتبة التی یصل إلیها العارف بعد عناء کبیر وسنین طوال من المشقة فی تهذیب النفس و مجاهدتها، و على هذا الأساس فالتغییر و الانتقال و طی المراحل لیس بالأمر الذی یتأتى بسهولة و یسر غالباً، و إن الوصول إلى المراتب و الثبات فیها فی غایة الصعوبة.
و فی مقام الفناء ینشغل الإنسان عن کل شیء فلا یرى نفسه و لا عبودیته و لا تمنیاته و رغباته و لا العالم من حوله فی مقابل حضرة الحق و لم یتوجه لشیء قط إلا إلى الله تعالى، فلا یشاهد أولیاء الله شیئاً إلا الحق، سواء بواسطة أو بدون واسطة، و الوسائط أحیاناً هی أسماء الله و صفاته، و أما أهل السلوک و المعرفة فإن هذه الحجب النوریة لا تشکل عائقاً بالنسبة إلیهم، و إنما تنحسر عن طریقهم و تتلاشى "إلهی هب لی کمال الانقطاع إلیک ... حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور". نعم إنها نهایة درجة الفناء التی یصل الإنسان بعدها إلى درجة التلاشی الکلی و الاضمحلال التام. هناک حینها یسمع باذن الله، و یرى بعین الله ، و ینطق بلسان الله.
و هذه المسألة لا تتنافى مع القول بعدم اکتناه الذات، و إن کنه الذات الإلهیة لا تکون معلومة إلا لله وحده سبحانه.
الفناء فی اللغة بمعنى العدم و التلاشی و هو یقابل البقاء الذی یعنی الثبات و الدوام، و لم تستخدم هذه اللفظة فی القرآن الکریم، و إن ذکرت بعض مشتقاتها. مثل قوله تعالى: "کُلُّ مَنْ عَلَیْهَا فَانٍ * وَ یَبْقَى وَجْهُ رَبِّکَ ذُو الْجَلالِ وَ الإِکْرَامِ" فقد استعمل القرآن الکریم الفناء هنا فی قوله "فان" مقابل "البقاء"؛ أی أن الله وحده من مقولة البقاء، بینما تتصف جمیع الموجودات الأخرى بالفناء و الزوال.
أما المعنى الاصطلاحی للفناء فلا یتطابق مع معناه اللغوی، لأن الفناء فی الاصطلاح؛ یعنی عدم رؤیة النفس و عدم التوجه إلیها، و لیس ذلک بمعنى الاغتراب عن النفس، و إنما المراد أن الإنسان لا یرى لنفسه أی اعتبار فی ساحة الحضرة الإلهیة، و إنما ینصرف بتمام معنى الانصراف إلى الله وحده دون سواه، بما فی ذلک نفسه.
عدد من تعاریف الفناء لدى العلماء فی هذا المیدان.
1- أبو سعید الخراز[1]: الفناء: هو فناء العبد عن رؤیة العبودیة، و البقاء هو بقاء العبد بالشهود الإلهی.
2- القشیری: کل من غلب علیه سلطان الحقیقة، حتى لا یرى شیئاً من الأغیار لا عیناً و لا أثراً، یقال له إنه فانٍ من الخلق و باقٍ بالحق.
3- الشریف الجرجانی: إن سقوط الصفات المذمومة یقال له الفناء کما أن وجود الصفات الممدوحة یقال له البقاء.[2]
و فی العرفان اصطلاحان:
1. الحال، 2. المقام.
"الحال" نوع تکییف و تحول یحدث فی قلب العارف، و من الممکن أن یکون وجوده دفعیاً و اختیاریا، و کذلک یزول بشکل دفعی و غیر اختیاری. (فالحال) إذن لیس من الکیفیات الثابتة، و أنه فی تغییر و تحول دائم.
أما "المقام" فهو على عکس الحال، أی أنهم یطلقون لفظ المقام على المنزلة و المرتبة التی یصل إلیها العارف من خلال الکدح الطویل المستمر لسنوات طوال فی مجاهدة النفس و ترویضها. و على هذا الأساس فمقام الفناء لا یکون ـ عادة و غالباً ـ قابلاً للتغیر و التحول. و بعبارة أخرى فإن کدح السالک و عناءه التدریجی المستمر فی طریق الزهد و الانعتاق من النفس و میول الهوى جعله مستحقاً لهذا المقام الخاص و المرتبة المتمیزة، و بما أن طی هذه المراحل و المراتب کان مصحوباً بالکدح و المشقة و العناء، فلیس ممکناً أن یزول بسهولة.
و فی مقام الفناء لا یرى الإنسان نفسه و لا عبادته و لا میوله و رغباته، و لا المحیط من حوله بالنسبة إلى الذات الإلهیة المقدسة، و إنما یتوجه بتمام وجوده إلى الله وحده دون سواه.
و على هذا الأساس فإن هذا المعنى للفناء لا یمکن أن نتصور فیه أی نقص کما هو الحال بالنسبة للمعنى اللغوی المتقدم ذکره، و إنما هو مرتبة من مراتب الکمال المتقدمة، کما یقول أهل العرفان: إن نتیجة الفناء و ثمرته هی البقاء و الدیمومة فی محضر الحق تعالى، أو کما یعبر سعدی الشیرازی:
إن التعالی فی التواضع
و إن البقاء بالفناء
و هذا النوع من الفناء هو الذی یطلق علیه أهل العرفان فی اصطلاحهم "الفناء فی الله".
کیف یمکن التوصل إلى مقام الفناء؟
هنا یمکن أن یقال أنه لا شیء یحول بین الإنسان و ربه إلا الذنوب و الإعجاب بالنفس و الاغترار بها، و کل تعلق بغیر الله سبحانه هو حجاب یحول بین العبد و ربه، و هذه الحجب المعتمة (الظلمانیة) هی التی تمنع من الوصول إلى موطن الحق، فإذا لم تکن هناک ذنوب و معاص و تعلقات وحجب، و کان أصل توجه الإنسان إلى منشأ وجوده، ففی هذه الحالة یکون شهود الحق ممکناً بکیفیة محدودة، و من بعد ذلک یمکن أن یحصل على مقام الفناء.
و من الجدیر بالذکر أن المراتب و المقامات الأخرى کثیرة فی طریق السیر هذا، و لکن بحثنا لا یتسع لها فنعرض عن ذکرها توخیاً للاختصار.
و أما بخصوص ما ورد فی لقاء الله بالعناوین المختلفة کالشهود و البقاء و... فلیس معنى ذلک الرؤیا البصریة، لأن الآیة الشریفة تنفی ذلک کما فی قوله تعالى: "لا تُدْرِکُهُ الأَبْصَارُ"[3] و لیس المراد هو الطرق الفکریة أیضاً، لأنه لا یطلق على الطرق الفکریة عناوین الشهود و البقاء، و ... و إنما المقصود ما أشار إلیه القرآن الکریم هو رفع الید عن کل ما سوى الله سبحانه، و الإتیان بالأعمال الصالحة و عدم التورط بالشرک بالله الواحد الأحد. فإذا ما رغب أی إنسان بمشاهدة الله و بلوغ مقام الفناء (أی مشاهدة الحق من دون واسطة) فلا بد من الإغماض عن النفس و عن الآخرین و عما یحیط به.
"فَمَنْ کَانَ یَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْیَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَ لا یُشْرِکْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا"[4] فالنبی موسى (ع) ـ کما فی قصة رؤیته للحق تعالى ـ و حینما خر صعقاً مغشیاً علیه، قال بعد إفاقته: إلهی لا یمکن أن تُرى إلا بالفناء و تقطیع کل العلائق.[5]
و أما ما یحظى بالأهمیة فی هذا المیدان فهو السؤال القائل: ما المراد بقول بعض أرباب المعرفة و السلوک من أنهم یرون الله سبحانه من دون واسطة؟ فما هو المقصود بهذه الوسائط بشکل إجمالی؟
و من أجل إیضاح هذا المعنى، من الأفضل الرجوع إلى العبارات الذهبیة للإمام الراحل- قدس سره- فی کتابه الشریف المعنون بالأربعین حدیثاً، حیث یقول: بعد حصول التقوى التامة و إعراض القلب عن جمیع العوالم و تخطی کل ألوان "الأنا" و "الأنانیة" و التوجه الکلی إلى الحق و صفاته و أسمائه و ذاته المقدسة، و الاستغراق بعشق الذات الإلهیة و حبها و ممارسة الریاضات القلبیة، یوجد نوع من صفاء القلب بالنسبة للسالک فیکون مورداً للتجلیات الصفاتیة و الأسمائیة و .... و حینها لا یبقى أی حجاب بین روح السالک و الحق تعالى غیر أسماء الحق و صفاته، و من الممکن لبعض السالکین أن یخترقوا حجب النور الأسمائیة و الصفاتیة فیجد نفسه متعلقاً بالذات المقدسة، و فی هذه المشاهدة یحصل له شهود قیومیة الحق و فناءه الذاتی.[6]
و بهذا المضمون جاءت الإشارة فی المناجاة الشعبانیة الشریفة و بأبلغ صورها: "إلهی هب لی کمال الانقطاع إلیک ... حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور"[7].
نعم إنه من الممکن أن یصل الإنسان إلى مکان و مرتبة لا یکون حائلاً بینه و بین معبوده إلا نور الصفات و الأسماء الإلهیة. و من الممکن أن یتجاوز هذا المقام فیتمکن من خرق هذه الحجب النورانیة کذلک، و بالعبور من خلال هذه الحجب یصل السالک إلى الاضمحلال الکلی و التلاشی، و فی هذه الحالة فإنه لا یرى من شیء وراء الحق، و کل ما یسمع فإنه عین الحق، فإنه یرى بعین الحق و یسمع بأذن الحق، و ینطق بلسان الحق، و بذلک یکون أعمىً عما سوى الحق و هذا هو منتهى الفناء فی الله و الاضمحلال المطلق و الفناء التام.
من المستحسن أن نعلم أن کل ما ورد من عبارات مشاهدة الحق و لقائه فی مقام الفناء، لا یعنی إمکانیة اکتناه الذات و یبقى هذا الأمر محالاً بالنسبة إلى الجمیع أی أن الوصول إلى معرفة کنه ذات الباری تعالى أمر مستحیل و یبقى منحصراً بالذات الأحدیة فقط، و إن بحث الفناء لا یتنافى مع هذه القضیة.
[1]. أول من استعمل لفظ الفناء فی المصطلحات العرفانیة هو أبو سعید الخراز.
[2]. الخرمشاهی، بهاء الدین، حافظ نامه، منشورات سیروش، ص 975.
[3] .الأنعام، 103.
[4] .الکهف، 110.
[5] .جوادی آملی، عبد الله، تفسیر موضوعى قرآن کریم "التفسیر الموضوعی للقرآن الکریم"، ج 7، ص 255 و ما بعدها.
[6].الخمینی، روح الله، اربعین حدیث" الأربعون حدیثاً"، ص 454.
[7] بحارالأنوار، ج 91، ص 98؛ مفاتیح الجنان، المناجاة الشعبانیة.