Please Wait
14869
يمكن القول بأن المنشأ الأصلي لإصطلاح "الموت الإختياري" في العرفان الإسلامي منبعث من كلام النبي محمد (ص) حيث يقول "موتوا قبل أن تموتوا".[i] فـ "موتوا" في هذا الحديث بمعنى "الموت" و قد استعمله الرسول (ص) بصيغة الأمر كعمل إختياري و "تموتوا" بمعنى "الوفاة" و هو الأجل المحتوم الذي يقع على كل شخص.
كما أن تمني الموت قد جاء في القرآن الكريم عدة مرات كمعيار بيّن لمدعي المحبّة و الإخلاص لله تعالى، و قد إعتبر كثير من العرفاء هذه الآيات دعوة للموت الإختياري حيث دعا الله سبحانه إليه محبيه و جعله معياراً لمحبته.
للموت الإرادي في العرفان العملي مقدمات و مراتب و أنواع يصل السالك في آخرها إلى مقام الموت الكامل، و مراتب الموت هي كما يلي: "الموت الأبيض" و هو تحمل الجوع و حصول نورانية القلب و بياضه، "الموت الأخضر" و هو بساطة العيش و مقام الفقر، "الموت الأحمر" و هو جهاد السالك لنفسه، "الموت الأسود" تحمل ثقل اللوم و التعب و المشقة و التقریع و جرح الالسن. و قد فصّل العرفاء في كتبهم الکلام في هذه المراتب الأربعة للموت الإختياري لا مجال لذكرها هنا.
كما أن أحد المقامات العرفانية التي تشير إلى جانب آخر من جوانب إصطلاح "الموت الإختياري" هو "خلع البدن"، بمعنى أن السالك يرتقي إلى ما فوق الموت و يكون جسمه بالنسبة له كاللباس الذي یخلعه متى شاء و يلبسه متى أراد. و هذه المرتبة تستلزم تحرّر الروح الكامل من الميول النفسانية و الوصول إلى مقام التجرّد الذي ينجر في النهاية إلى مقام الفناء.
المقدمة
ورد إصطلاح الموت أو "الموت الإختياري" بشكل خاص في الروايات و علم الفلسفة و العرفان و العلوم المختلفة الأخرى مشیراً الی معان إصطلاحية خاصة، و هي و إن كانت في النهاية تشير إلى حقيقة واحدة، لكن كل منها أخذ جانباً من جوانب المسألة، و كما ان للموت الإختياري مراتب متعددة، له کذلك مقدمات و غايات نهائية أيضاً يطلق على كل منها عنوان "الموت الإختياري".
و يعد الموت حقيقة عرفانية سارية و جارية على كل عالم الخلق و فن الموت الإختياري يعد من أرقى الفنون العرفانية و الفطرية؛ و يعني الفناء عن النفس و البقاء في حياة أرقى في المراتب المختلفة. و هذا الأمر هو أساس الاستمرارية و الحركة الفطرية و الإرتقاء بموجودات العالم إلى الكمال الإلهي و المراتب العليا التي تتسامى على الحياة الدنيوية.
1ـ الموت الإختياري في القرآن و الروايات
يمكن القول بأن المنشأ الأصلي لإصطلاح "الموت الإختياري" في العرفان الإسلامي منبعث من كلام النبي محمد (ص) حيث يقول "موتوا قبل أن تموتوا".[1] فـ "موتوا" في هذا الحديث بمعنى "الموت" و قد استعمله الرسول (ص) بصيغة الأمر كعمل إختياري و "تموتوا" بمعنى "الوفاة" و هو الأجل المحتوم الذي يقع على كل شخص.
كما و ان تمني الموت و طلبه قد ورد في القرآن عدة مرات كمعيار بيّن لا يقبل الخطأ لمدعي المحبّة و الإخلاص لله تعالى: "قُلْ يَأَيهُّا الَّذِينَ هَادُواْ إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ المْوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين".[2]
و قد اعتبر كثير من العرفاء هذه الآيات دعوة "للموت الإختياري" حيث دعا الله سبحانه إليه محبيه و جعله معياراً لمحبته.
و كذلك تكرر هذا الأمر في آية أخرى من القرآن الكريم نزلت في شأن المنافقين "وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيهْمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنهْمْ وَ لَوْ أَنهَّمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكاَنَ خَيرْا لهَّمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتًا".[3]
الإمام الصادق (ع) في "مصباح الشريعة" يرى أن الإستعداد للموت الشرط الأول للسلوك فيخاطب السالك بقوله (ع): "فانظر أيها المؤمن فان كانت حالتك حالة ترضاها لحلول الموت فاشكر الله تعالى على توفيقه و عصمته و إن كانت أخرى فانتقل عنها بصحيح العزيمة".
فالانس بالموت معيار واضح لمدعي سلوك طريق الحق و شاخص بيّن و واضح. و من هنا نجد سلطان العرفاء الإمام علياً (ع) قد سبق الجميع في هذا الميدان حيث يقول (ع): "و الله لإبن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه".[4]
فهؤلاء الأفراد قد ماتوا سلفاً و لا وجود لهم فقد اصيبوا بسهم العشق و المحبة و وصلوا إلى درجة الشهادة الباطنية، فالقتل على يدي المحبوب أرقى من القتل على يدي العدو. كما جاء في الحديث القدسي المعروف: "من طلبني وجدني و من وجدني عرفني و من عرفني أحبني و من أحبني عشقني و من عشقني عشقته و من عشقته قتلته و من قتلته فعليّ ديته و من عليّ ديته فأناديته".
2ـ مراتب و أنواع الموت في العرفان.
لقد ذكر العرفاء للموت الإرادي مقدمات و مراتب و أنواع يصل السالك في آخرها إلى مقام الموت الكامل، و مراتب الموت هي:
1ـ الموت الأبيض و هو نورانية القلب.
2ـ الموت الأخضر و هو بساطة العيش و الملبس و الفقر الإختياري الذي منه نضارة الروح.
3ـ الموت الأحمر و هو جهاد الساك مع نفسه و يقال عنه أيضاً الجهاد الأكبر و بما أن سفك الدماء ملازم للقتل في الجهاد سمي هذا الموت بالموت الأحمر.
4ـ الموت الأسود و تحمّل ثقل اللوم و التعب و المشقة و التقریع و جرح الالسن.[5]
و البيان الأصح و الأوضح لهذه المراتب الأربعة للموت الإرادي هو أن السالك ما لم يتجاوز الروح (الموت الأول ـ الأحمر) لم يصل إلى المعشوق و لا يحصل على الخلود، و ما لم يتجاوز الخبز (الموت الثاني) لم يصل إلى مقام الشبع و القناعة و التلذذ بالنفس، و ما لم يتجاوز الإسم و ماء الوجه (الموت الأسود) لم يصل إلى هويته الذاتية و معنى الوجود و ما لم يتجاوز الأعزاء و الأحباب لم يصل للقرب و لم يكن من أهل القلوب (الموت الرابع ـ الأبيض).[6]
و قد فصل العرفاء في كتبهم كثيرا شرح و تفصيل هذه المراتب الأربعة للموت التي هي في الحقيقة طريق التنزّه الكامل عن الدنيا و ما فيها، و ذكروا أن هذه المراتب هي من الأركان الأصلية للطريقة و العرفان العملي.
3ـ خلع البدن
و من المقامات العرفانية التي تشير إلى الجانب الآخر لإصطلاح "الموت الإختياري" مقام "خلع البدن"؛ يعني أن السالك يرتقي إلى ما فوق الموت و يكون جسمه بالنسبة له كاللباس الذي یخلعه متى شاء و يلبسه متى أراد. و العارف في هذا المقام يرتفع إلى ما فوق جسمه.
و على حد تعبير شيخ الإشراق الذي كان رائداً في استعمال هذا الإصطلاح: "لا یعد الإنسان من المتألهین ما لم یصر بدنه کقمیص یخلعه تارة و یلبسه أخری، ثم إذا شاء عرج إلی النور".[7] و قال في موضع آخر: "و أعظم الملکات ملکة موت ینسلخ النور المدبر عن الظلمات انسلاخاً و إن لم یخل عن بقیة علاقة مع البدن، ألا إنه یبرز إلی عالم النور و یصیر متعلقاً بالأنوار القاهرة و یری الحجب النوریة کلها".[8]
ويقر من ذلك ما جاء في المناجاة الشعبانية: "إلهي هب لي کمال الانقطاع إلیک ... حتّی تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلی معدن العظمة و تصیر أرواحنا معلّقة بعزِّ قدسک".[9]
كما تجدر الإشارة هنا إلى أن إنفصال الروح عن البدن يعتبر في العرفان الجديد و في العلوم الروحية من الأهداف المطلوبة التي تسمّى في إصطلاح هذه العلوم بـ "نزع الروح" أو "السفر الروحي" و هذه الظاهرة هي في الواقع إنفصال البدن المثالي عن الجسم المادي كما في الرؤية الفلسفية و العرفانية في العلوم الإسلامية.
ففي النزع الروحي، ينفصل البدن المثالي ـ الذي يقلّ الروح ـ عن البدن المادي بإرادة نفس الشخص في حالة شبيهة بالنوم، أو بدون إرادته و بتلقين شخص آخر، أما مسألة نزع البدن في العرفان الإسلامي فهو على خلاف هذه الظاهرة إذ هو إشارة إلى عدم احتياج الروح الإختياري للبدن.[10] و عدم الحاجة هذه قد تكون للحظات قليلة و قد تستمر و قد تكون بشكل دائم.
و هاتان المرتبتان من السير و السلوك لا تحصلان للإنسان إلا عن طريق طيّ مراحل طويلة من تزكية النفس، أما إلقاء هذه المطالب المصطنعة في النفس أو للآخرين للحصول على بعض المسائل الغيبية، فهو خارج عن مقولة العرفان الإسلامي.[11]
اتضح مما مضى أن الموت الإختياري و في النتيجة "خلع البدن" في العرفان الإسلامي يحصل نتيجة تحرّر الروح الكامل من الميول النفسانية و حصول التبرّد الكامل للنفس الذي ينجر في النهاية إلى مقام الفناء.
[1] بحار الأنوار، ج 69، ص 57.
[2] الجمعة، 6.
[3] النساء، 66.
[4] بحار الأنوار، ج 71، ص 5.
[5] مقتبس من، شرح عيون مسائل النفس، حسن زادة الآملي، ص 154.
[6] الخانجاني، علي أكبر، الحكمة النورية (للإشراق)، فصل الموت الأبيض (قيامة القلب)، ص 41.
[7] شرح حكمة الإشراق السهروردي، ص 4، بعناية عبد الله النوراني ـ مهدي المحقق، طهران، جمعية الآثار و المفاخر الثقافية، 1383.
[8] نفس المصدر، ص 531.
[9] بحار الأنوار، ج 91، ص 98.
[10] إذن النزع الروحي بعنوانه ظاهرة روحية لا يكون مؤثراً بنفسه و بدون حصول مراحل التزكية في التكامل المعنوي ـ و إن اتفق هذا الأمر لكثير من السالكين ـ و مسألة خلع البدن و الموت الإختياري بالمعنى الواقعي للكلمة هي أمر يعتلي على النزع الروحي، لأنه يحصل نتيجة التغير و التبدل الوجودي الكامل عند العارف الذي يرفعه بشكل كامل عن الجسم، و من جهة أخرى فإن البدن المادي و على أثر التجليات للبدن النوري هو بحكم حجاب رقيق يمكنه تركه و التحرر منه متى شاء، و هذا الأمر هو منزلة عرفانية عظيمة أطلق عليها شيخ الإشراق بـ "خلع البدن" و يعتقد بأن عدة قليلة من الحكماء وصلوا إلى هذا المقام.
[11] كما أن عروض هذه الحالة على أثر الإزدواجية الشديدة بين الجسم و الروح و التي يمكن أن يصاحبها خوف و عذاب شديدان و التي تتبدل عملا إلى نوع مرض، أيضاً يعتبر أمر خارج عن المقامات العرفانية.