بحث متقدم
الزيارة
5241
محدثة عن: 2011/10/29
خلاصة السؤال
هل یجوز تهیئة اللافتات و أکالیل الزهور من قبل المؤسسات الخیریة و اهداؤها إلی أهالی المتوفّی، خصوصاً إذا تدخّلت مسألة تقلید الآخرین و مراقبتهم، و هل من ثواب یصل بهذا العمل إلی المیت؟
السؤال
کما تعلمون أن من العادات الرائجة فی أوساطنا هو تهیئة اللافتات و أکالیل الزهور لمجالس العزاء و الیوم السابع و الیوم الأربعین للموتی من قبل المؤسسات الخیریة و إهداؤها لذوی المیت. أنا لا أحکم فی نیة الناس بهذا العمل، لکن أتکلّم عن نفسی و عن المرات العدیدة التی قمت فیها بهذا العمل، فأشعر إنه لم یکن إلا لحبّ الظهور لأن إسمی من الطبیعی سیکون مکتوباً فی اللافتة أو علی أکلیل الزهور و مما لا شک فیه ان أصحاب العزاء سیرون إسمی، و فی الحقیقة أشعر بأن قیامی بهذا العمل لم یکن إلا لإلقاء السرور علی أصحاب العزاء، و قد تتضمّنها نصف نیة إرسال الثواب إلی روح المیت. و لعله لو لم تکن مسألة تقلید الآخرین و مراقبتهم و حب الظهور و ... من المحتمل أن لا ندفع صدقة بهذا السعر الباهض أو أن نتصدّق علی روح المیت بما هو أقل من هذا کلّفه بکثیر.
علی کل حال، أرید أن أعرف، هل سیصل ثواب من هذا العمل غیر الخالص إلی روح المیت؟ و هل نؤجر علی هذا العمل؟ أم أن هذه الصدقة ستُرد من قبل الله سبحانه بسبب عدم خلوص النیة، و لا تصل إلی روح المیت و لا نحصل منها إلا الوزر و الوبال؟.
الجواب الإجمالي

یُمکن تقسیم عبادة الإنسان إلی عدة تقسیمات، ففی بعضها تکون العبادة السریة أکثر قیمة من العلنیة، و فی بعضها تکون العلنیة أفضل، لأن القیام بها سرّاً لا یحقق الهدف فی أصل تشریعها من قبل الإسلام. و تعزیة أصحاب العزاء و تسلیتهم من الأمور التی لا یمکن أن تؤدی سرّاً، إذ لا یتحقق الهدف منها إلا إذا أظهر المعزّی وجوده أمامهم، لذلک فمثل هذا الظهور لیس إنه لا یحسب ریاءً فحسب، بل یُمکن فیه کثیر من الأجر و الثواب.

أما السنة الإسلامیة فی هذا الصعید فإنها قائمة علی العمل بکل ما من شأنه أن یهدئ أنفس أصحاب المصیبة و کذلک علی أخذ العبرة من موت الآخرین، لا أن نجعل موتهم وسیلة لإظهار التکبّر و مراقبة الآخرین و تقلیدهم.

الجواب التفصيلي

یُمکن تقسیم السؤال اعلاه إلی قسمین:

1- هل إظهار الشخص المعزّی نفسه أمام أصحاب العزاء منافٍ للنیة الإلهیة الخالصة؟

2- ما حکم تقدیم اللافتات و أکالیل الزهور و الأمور الأخری المشابهة التی من شأنها أن تقدم فی مجالس العزاء من قبل المشارکین المعزّین؟

و الآن نجیب علیها بالترتیب:

1- لیس کما یتصوّر البعض ان النیة الإلهیة الخالصة لا تحصل إلا بالعمل الصالح الخفی، نعم قد تکون لبعض العبادات الفردیة و الارتباط المعنوی بالله سبحانه و الخلوة معه آثار أفضل للعبد، لکن بعض العبادات الإجتماعیة یکون الثواب علیها أکثر، بل أن بعض الأعمال أساساً لا یمکن أن تؤدی إلا علناً.

من الأعمال الإجتماعیة التی ورد التأکید الکثیر علیها فی الإسلام حتی عدّت من العبادات هی تعزیة أصحاب العزاء الذین فقدوا عزیزاً من أسرتهم. فقد نقل عن رسول الأکرم (ص) "من عزّی حزیناً کُسی فی الموقف حلة یحبر بها". [1] و من الطبیعی کلما کان عدد المعزّین أکثر و کلما کان حضور الأصدقاء و الأقرباء فی مجالس العزاء أوسع، کان نصیب أصحاب المصیبة من الطمأنینة و الارتیاح و الاستقرار أکثر، لذلک من الجدیر علی الإنسان أن لا یکتفی بالحضور الخفی فی مراسم العزاء، بل علیه أن یسعی لأن یُظهر نفسه أمام أصحاب العزاء لکی یطّلعوا علی مواساته.

و هذا العمل لا ینافی أصلاً خلوص النیة و لا یحسب من مصادیق الریاء لأنه نوع عبادة إجتماعیة، بل قد أکّدت الروایات علی هذا العمل. فعن الإمام الصادق (ع): "التعزیة الواجبة [2] بعد الدفن" و قال "کفاک من التعزیة أن یراک صاحب المصیبة" [3] ؛ إذن، إظهار النفس لأصحاب العزاء لا یمکن أن یحسب من حبّ الظهور المنفی.

2- أما ما یخص القسم الثانی من السؤال، فیجب القول: هناک عادات و تقالید غیر صحیحة تکتنف مجالس العزاء، فیجب علی کل مؤمن السعی لإزالتها. فمثلاً یجب أن یکون المرور علی المقبرة و الاشتراک فی مجالس العزاء، مما یذکّر الإنسان بالله و الیوم الآخر، و مما یردعة عن التمسّک بالدنیا، لذلک نجد من وصایا المعصومین (ع) أنه إذا تردد الإنسان بین أن یشترک فی مجالس العزاء أو أن یشترک فی ضیافة عادیة، فالأفضل أن یختار الحضور فی مجالس العزاء و یترک مجالس الضیافة لأن الحضور فی مجالس العزاء مما یذکّره بالآخرة، أما الضیافة فهی مما تذکّر بالدنیا أکثر. [4]

حالیاً، إذا صارت مجالس العزاء کمجالس الضیافة المجلّلة و الفخمة التی یقدم فیها من ألوان الأطعمة مالذ و طاب أمام الضیوف الذین جاءوا بملابس و هیئة لا تقل عن ملابس الحفلات المفرحة بشیء، فیا تری هل أن مجلس العزاء هذا سیذکر بالآخرة؟ أو هل من الجدیر أن تکون مجالس العزاء مصحوبة بتقدیم أنواع الأطعمة التی من شأنها أن تکون فی مجالس الضیافة.

روی أن محمد بن علی بن الحسین (ع) قال: أتی أبو عبد الله (ع) قوماً قد اصیبوا بمصیبة فقال: "جبر الله و هنکم و أحسنَ عزاکم و رحم متوفّاکم" [5] ثم انصرف و هذه الروایة تدل علی أن مجالس العزاء یجب أن تعقد ببساطة کاملة و أن یکتفی المعزّون بإظهار العزاء و المواساة، و إذا أشعر الحاضرون بلزوم الجلوس أکثر فی هذه المجالس لإعادة الاستقرار النفسی لأهل المیت، فیجب أن لا یُکلّفوا أهل المیت کثیراً بضیافتهم، بل یجب السعی لأن یؤمنوا طعام المصابین حتی لا تشکّل مسألة الطعام دغدغة فکریة بالنسبة لهم. التفتوا إلی هذه الروایة: عن أبی عبد الله (ع) قال: "لمّا قتل جعفر بن أبی طالب أمر رسول الله (ص) فاطمة علیها السلام أن تتخذ طعاماً لأسماء بنت عمیس ثلاثة أیام، و تأتیها و نسائها و تقیم عندها ثلاثة أیام، فجرت بذلک السنة أن یصنع لأهل المصیبة طعاماً ثلاثاً". [6]

و یقول (ع) فی مکان آخر: "الأکل عند أهل المصیبة من عمل أهل الجاهلیة، و السنة البعث إلیهم بالطعام کما أمر به النبی (ص) فی آل جعفر بن أبی طالب لمّا جاء نعیه". [7]

انطلاقا مما مرّ یمکن الحکم علی العادات و التصرفات التی تمارس فی مجتمعاتنا الإسلامیة فی هذه الأیام هل هی مطابقة للسنن الإسلامیة أم للسنن الجاهلیة؟!

نحن لم نعمل مع الأسف بهذه السنن الإسلامیة فی کثیر من الموارد، و بدلاً من أن نرفع ثقلاً عن عاتق المصابین نکون عالة علیهم و سبباً لبذل مبالغ طائلة تحتاج إلی تعب و جهد کبیرین حتی لو لم تثقل علیهم مادیاً، فتکون عندئذٍ المصیبة علیهم مصیبتین.

فی الطرف المقابل أیضاً ستکون تکلفة کبیرة فی تحمل مصاریف أکالیل الزهور الباهضة الثمن و اللافتات و أوراق التبلیغات و ... التی لا تعود بالنفع لا علی المیت و لا علی عائلته، بل ستکون سبباً لاخجال من لا یُمکنه تحمل هذه المبالغ الباهضة لکی یواسی أصحاب المصاب بحضوره و قد تمنعه من الحضور تماما.

و فی کثیر من الأحیان لا یُنظر إلی تسلیة أصحاب المصیبة فی هذه التصرّفات الکمالیة أکثر من أن تکون فرصة مناسبة لبعض الأشخاص لیعرض ثروته أو مقامه أمام الآخرین لیشعر باللذة من ذلک. فمن الطبیعی أن یکون هذا التصرّف مرفوضاً و غیر مؤیّد من قبل الدین الحنیف.

النتیجة النهائیة لهذا القسم من الجواب هی: یجب –بالحد المستطاع- أن نحصل من مشارکتنا من الحضور فی مجالس العزاء علی نتیجتین حسنتین، أحدهما تسلیة أصحاب المصاب، و الثانیة: أخذ العبرة من المصیبة بالنسبة للدنیا الفانیة، و کل ما هو خارج من هاتین النتیجتین لا یُمکن أن یکون تصرّفاً حسناً.

فی النهایة لا بأس بالتذکیر بهذه النکتة و هی: ما ذُکر هنا من لزوم تغییر العرف الموجود هو هدف مقدس یجب أن نسعی وراءه، لکن من الممکن و تحت شروط خاصة و من باب الأهم و المهم یکون العمل علی أساس السنة الموجودة عملاً مقبولاً و لا یرد علیه شیء، فمن باب المثال: حتی و لو حُسب الطعام عند أهل المصیبة من سنن الجاهلیة، لکن لو کان ترک المجلس یعتبر إهانة لصاحب العزاء، أو یؤدی إلی اذیته و من ثَمَّ لا یتحقق الهدف من تسلیته و ادخال السرور علیه، عندئذٍ یکون عملاً لا بأس به لأنه یؤدی إلی ارضائهم.

و نفس هذا الکلام یرد فی مسدلة تهیئة أکالیل الزهور و اللافتات التی أشرتم إلیها فی السؤال، فلا یُمکن الحکم علیها کلیاً بالتأیید خصوصاً إذا کانت ناشئة من التفاخر و التکبّر و ... لکن فی بعض الأحیان –و التقدیر لکم-، من الممکن أن لا یکون فی عملکم هذا إشکال شرعی، و السعر المدفوع للمؤسسات الخیریة و بنیة المتوفی یکون بحکم الصدقة و یستفید منها روحیاً. و فی نفس الوقت یجب أن یکون سعینا کله موّجهاً لما من شأنه أن یقلع هذه السنة غیر الصحیحة من المجتمع الإسلامی لکی تعطی مکانها للسنن الإسلامیة المناسبة.

الموضوع المرتبط:

طریق الوصل للإخلاص، 2126 (الموقع: 2234).

علاج الریاء، 8063 (الموقع: 8344).

لینک إلی موقع الاستفتاءات (رقم 756).



[1]    الحر العاملی، محمد بن الحسن، وسائل الشیعة، ج3، ص213، ح3435، مؤسسة آل البیت، قم، 1409 هـ.ق.

[2]    المراد من الواجب هنا الاستحباب المؤکّد.

[3]    نفس المصدر، ج3، ص216، ح 3448.

[4]    نفس المصدر، ج2، ص451، ح2620.

[5]    نفس المصدر، ج3، ص218، ح 3451.

[6]    نفس المصدر، ج3، ص235، ح3499.

[7]    نفس المصدر، ج3، ص237، ح3504.

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

التصنیف الموضوعی

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    280259 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    258835 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    129631 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    115649 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    89557 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    61041 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    60369 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    57377 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    51625 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47715 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...