Please Wait
33177
ان مصادرنا الدينية اسبغت على هذا النوع من الدعاء نوعا من المشروعية، فاباحت للمظلوم الدعاء على من ظلمه، و قد اشارت الى ذلك بوضوح سورة المسد التي نزلت في ذم أبي لهب و زوجه أم جميل لما سبباه للنبي الاكرم (ص) من أذى و متاعب، حيث جاء فيها: تَبَّتْ يَدا أَبي لَهَبٍ وَ تَب" و "اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ تَصْعَدُ إِلَى السَّمَاء".
فالمظلوم له حق الدعاء على من ظلمه و هذه قضية مسلمة في الفكر الاسلامي، و لكن يبقى الكلام في قضية أخرى وهي: أن الدعاء بشقيه الايجابي و السلبي (الدعاء للغير و الدعاء على الغير) كلاهما يحتاج الى توفر مجموعة من الشروط اللازمة في الاستجابة، فليس كل دعاء مستجاب؛ بمعنى أنه لا توجد حتمية و قطع بين المظلومية و بين استجابة الدعاء. قال تعالى: " وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُون".
و الجدير بالاهتمام في هذه المقالة أن الظلم و الاعتداء يصدق في الافعال ذات المراتب؛ يعني الافعل ذات الشدة و الضعف في مراتبها. و ان اشد انواع الظلم هو الظلم الذي يحيق بدين الناس و معتقداتهم و حقوقهم الشخصية، هذا على المستوى الاجتماعي و أما ظلم الافراد فاقبح ظلم و اشده الشرك بالله تعالى، و هذه الانواع من الظلم غير قابلة للتجاوز عنها و غفرانها، بل مستحقها يستوجب الدعاء عليه، و هذا ما ورد في بعض الادعية كلعن بني أمية لما اقترفته ايديهم من جرائم بحق أولياء الله تعالى و إراقة دماء الصالحين و المؤمنين. وهناك نوع آخر من الظلم يحل بالافراد لكن لم يكن منطلق الظالم الخصام مع دين الشخص و معتقداته و إنما الظلم يحدث لاسباب شخصية صرفه، فهذا النواع من الظلم لا يرقى الى مرتبة الظلم من النوع الاول قطعاً.
نحاول هنا تحليل القضية من اكثر من زاوية.
الف: اصناف الدعاء في اللغة
يقسم أرباب اللغة الدعاء الى نوعين دعاء للشخص بالخير و هو ما يطلق عليه الدعاء الايجابي، و دعاء على الشخص و هو ما يطلق عليه الدعاء السلبي بان يدعو بلعنه و ذمه أو موته او نزول البلاء به و فشله في الحياة الدنيا او في الدنيا و الاخرة و ...[1]
الدعاء على الغير في القرآن
الملاحظة ان مصادرنا الدينية اسبغت على هذا النوع من الدعاء نوعا من المشروعية، فاباحت للمظلوم الدعاء على من ظلمه، و قد اشارت الى ذلك بوضوح سورة المسد التي نزلت في ذم أبي لهب و زوجه أم جميل لما سبباه للنبي الاكرم (ص) من أذى و متاعب، حيث جاء فيها: تَبَّتْ يَدا أَبي لَهَبٍ وَ تَب".[2] و من الواضح أن "التبّ یعني الهلاك، و تبّت الأولى دعاء عليه بالهلاك و الخسران".[3]
الدعاء على الغير في الروایات
ركزت الروايات و الاحاديث الصادرة عن المعصومين (ع) على التحذير من دعوة المظلوم، نشير الى نماذج منها:
1. روي عن الامام الصادق (ع) أنه قال: "اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ تَصْعَدُ إِلَى السَّمَاء".[4]
2. و عنه (ع) أيضاً: "اتقوا دعوة المظلوم فإنّه يَسأل الله حقّه و الله سبحانه أكَرم من أن يسئل حقّاً إلّا أجاب".[5]
3. روي عن الامام الباقر (ع) أنه قال: "لمَّا حضَرَ عليَّ بن الحسين (ع) الوفاةُ ضَمَّنِي إِلى صدره ثمَّ قال: يا بُنَيَّ أُوصيك بما أَوصاني به أَبي (ع) حين حضرتهُ الوفاةُ و بما ذكر أَنَّ أَباهُ أَوصاهُ به قال: يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَ ظُلْمَ مَنْ لَا يَجِدُ عَلَيْكَ نَاصِراً إِلَّا اللَّهَ".[6]
4. قال أمير المؤمنين (ع): "يَوْمُ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ أَشَدُّ مِنْ يَوْمِ الظَّالِمِ عَلَى الْمَظْلُومِ"؛[7]
تحليل و دراسة المسألة
اتضح من خلال الآيات و الروايات أن المظلوم له حق الدعاء على من ظلمه و هذه قضية مسلمة في الفكر الاسلامي، و لكن يبقى الكلام في قضية أخرى وهي: أن الدعاء بشقيه الايجابي و السلبي (الدعاء للغير و الدعاء على الغير) كلاهما يحتاج الى توفر مجموعة من الشروط اللازمة في الاستجابة، فليس كل دعاء مستجاب[8]؛ بمعنى أنه لا توجد حتمية و قطع بين المظلومية و بين استجابة الدعاء.
قال تعالى: " وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُون"[9]
و لكن لابد من الالتفات الى قضية مهمة و هي: أن ظلم الآخرين يندرج تحت حقوق الناس التي ترك الله تعالى العفو عنها او المؤاخذة عليها الى اصحابها. فاذا ظلم الانسان ما و عفا عن ظالمه و تنازل عن حقه، عفا الله عنه و الا فلا، قال تعالى مشيرا الى هذه القضية: "وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ"؛[10]
من هنا، قد يتم احقاق الحق في الحياة الدنيا، و تارة يؤجل الباري تعالى تحقيقه الى عالم الآخرة لمصالح يراها سبحانه و تعالى نفسه، و هذا أحد الاسباب في قيام الساعة و ذلك لاجل احقاق حقوق المستضعفين و المظلومين من ظاليمهم و الغاصبين لحقهم.
و الجدير بالاهتمام في هذه المقالة أن الظلم و الاعتداء يصدق في الافعال ذات المراتب؛ يعني الافعل ذات الشدة و الضعف في مراتبها. و ان اشد انواع الظلم هو الظلم الذي يحيق بدين الناس و معتقداتهم و حقوقهم الشخصية، هذا على المستوى الاجتماعي و أما ظلم الافراد فاقبح ظلم و اشده الشرك بالله تعالى، و هذه الانواع من الظلم غير قابلة للتجاوز عنها و غفرانها، بل مستحقها يستوجب الدعاء عليه، و هذا ما ورد في بعض الادعية كلعن بني أمية لما اقترفته ايديهم من جرائم بحق أولياء الله تعالى و إراقة دماء الصالحين و المؤمنين. وهناك نوع آخر من الظلم يحل بالافراد لكن لم يكن منطلق الظالم الخصام مع دين الشخص و معتقداته و إنما الظلم يحدث لاسباب شخصية صرفه، فهذا النواع من الظلم لا يرقى الى مرتبة الظلم من النوع الاول قطعاً، و هذه القاعدة تجري حتى اذا وصلت القضة الى حد القتل الذي يعد من اقبح الظلم و توعد الله تعالى عليه الخلود في النار[11] ؛ بمعنى ان القتل الذي يجر بصاحبه الى الخلود في النار هو القتل النابع من الخصومة الدينية و ان القاتل انما يقدم على القتل عداء لدين المقتول لا لخصومة أخرى.[12]
و من الضروری هنا الذكير بقضية مهمة و هي: صحيح ان الشريعة أباحت للمظلومين و المهضومة حقوقهم من المسلمين الدعاء على من ظلمهم و لعنه، و لكن هناك الكثير من التوصيات و الارشادات الصادرة عن النبي الاكرم (ص) و أهل بيته (ع) التي تحث على العفو و التجاوز بدلا عن اللعن و الدعاء على المتجاوزين. روى النبي الاكرم (ص) الحث الكثير على الصفح و العفو، و كذلك روي عن الائمة المعصومين (ع) فعن الامام السجاد (ع): فاذكر يا علي بن الحسين ذل مقامك بين يدي ربك الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال حبة من خردل و يأتي بها يوم القيامة و كفى بالله حسيبا و شهيدا فاعف و اصفح يعفو عنك المليك و يصفح فإنه يقول (وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم).[13] [14]
إنطلاقا من التعاليم الدينية لابد ان يكون المؤمن تجليا من تجليات الصفات الالهية، و من تلك الصفة صفة العفو و الصفح، و بهذا نناديه سبحانه دائما بطلب العفو عنا و التجاوز عن خطايانا، بقولنا " يا غفار و يارحيم و...، فاذا ما اردنا ان يتجاوز الباري عنا و يتسجب لنا طلبتنا هذه فلابد أن نجسد هذا المعنى في نفوسنا فنعفو عمن ظلمنا، و هذه التوصية انما تجري بين الاخوة المؤمنين و المجتمع الاسلامي فتحث بعضهم للعفر عن ظلم الآخر، و لا تشمل الظالمين و المتسلطين على رقاب الناس و من اتخذوا من الظلم وسيلة لتحقيق مآربهم و اشباع رغباتهم الدنيوية.
الدعاء على الآخرين و لعنهم عند العرفاء
و الجدير بالذكر ان بعض علماء الاخلاق و كبار العظماء لم يحبذوا الدعاء على الآخرين انطلاقا من الزاوية العرفانية حيث صرحوا بانه: لا يخفى مذمومين لعن المسلمين و الدعاء عليهم حتى الظلمة منهم الا اذا اضطر لذلك، فقد روي في الحديث: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَكُونُ مَظْلُوماً فَمَا يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَكُونَ ظَالِماً".[15] و[16]
من هنا نرى من المناسب في مثل تلك الحالات التي يتعرض فيها المؤمن للظلم و هضم الحق من قبل أخيهم المسلم، و إن جاز له الدعاء على من ظلمه، و لكن المرجح العفو و التجاوز و يوكل الامور الى الله تعالى، ليعفو عنه و يغفر له في المواطن التي يكون بامس الحاجة الى العفو و الصفح، هذا من جهة و من جهة اخرى يوكل الامر الى الله تعالى ليكون هو الولي الذي يدافع عن المظلومين في الدنيا او في الاخرة اذا رأى المصلحة في ذلك.
[1] انوري، حسن، فرهنگ بزرگ سخن، ج 8، ص 7888، انتشارات سخن، طهران، الطبعة الثانية، 1382 ش؛ و انظر: دهخدا، علی اکبر، لغت نامه دهخدا، ج 43، ص 660، جامعة طهران، 1346ش.
[2] المسد، 1.
[3] . مغنیه، محمد جواد، تفسیر الکاشف، ج 7، ص 621، دارالکتب الاسلامیة، طهران، 1424ق.
[4] . المجلسْ، محمد باقر، بحارالانوار، ج 90، ص 359، موسسة الوفاء، بیروت، 1409ق.
[5] . التمیمي الآمدي، غرر الحکم، ص 350، مکتب الاعلام الاسلامي، قم، 1366ش.
[6] الکلیني، الکافي، ج 2، ص 331، دارالکتب الاسلامیة، طهران، 1368ش
[7] . نهج البلاغة، ص 511.
[8] للاطلاع على المزيد من فلسفة الدعاء و شروطه، انظر: فلسفة الدعا، 14150 (الموقع: ar13900)؛ شروط استجابة الدعا و طرقه، 2145 (الموقع: 2269).
[9] يونس، 11.
[10] . ابراهیم، 42.
[11] النساء، .
[12] الکافي، ج 7، ص 275- 276، بَابُ أَنَّ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً عَلَى دِينِهِ فَلَيْسَتْ لَهُ تَوْبَةٌ. "عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ الراوی: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ (وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ [خالِداً فِيها]؟) قَالَ: مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً عَلَى دِينِهِ فَذَلِكَ الْمُتَعَمِّدُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً. قُلْتُ: فَالرَّجُلُ يَقَعُ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الرَّجُلِ شَيْءٌ فَيَضْرِبُهُ بِسَيْفِهِ فَيَقْتُلُهُ؟ قَالَ:َ لَيْسَ ذَلِكَ الْمُتَعَمِّدَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ.
[13] النور، 22.
[14] السيد ابن طاووس، إقبالالأعمال ص : 261، دار الكتب الاسلامية، 1367 هجري شمسي.
[15] الکافي، ج 2، ص 333، ح 17.
[16] النراقي، احمد، معراج السعادة، ص 197، الطبعة القدیمة، انتشارات امین و رشیدي، طهران؛ النراقي، مهدي، جامع السعادات، ج 1، ص 305، اسماعیلیان، قم، 1386ش