Please Wait
8321
ما ترید هذه الآیة الکریمة بیانه هو إثبات التوحید الأفعالی و نفی استقلال النبی (ص)عن الله سبحانه فی وجوده و سائر شؤونه حیاته. و علیه فلا وجود لأی منافاة بین هذه الآیة و الآیات التی تنسب الفعل و الشفاعة و.... إلى شخص الرسول الأکرم (ص)بإذن الله و إرادته، کما إنه لا یوجد أی أمر فی الآیة یشیر إلى ما نفعله من تمسکنا بالأولیاء و من ضمنهم النبی الأکرم (ص)، و ذلک لأن ما یصدر عن الرسول من فعل کالشفاعة و رفع الحوائج و شفاء المرضى إنما یقع - کسائر أفعاله – فی طول فعل الله و بإذنه و إرادته.
و فی واقع الأمر إن النبی (ص)ینفی ادعاء الربوبیة و الألوهیة عن نفسه فی هذه الآیة الکریمة و أمثالها من الآیات الأخرى. خلافاً للمسیحیة و ما یقول به الغلاة من ألوهیة المسیح (ع) و الإمام علی (ع)، و کذلک ما یجری فی الکنیسة و أصحابها الذین اتخذهم البعض أرباباً من دون الله و قدموا أقوالهم و تعالیمهم على أوامر الله سبحانه و أحکامه.
و على هذا الأساس فعلى الرغم من أننا مأمورون بالتمسک و الرجوع إلى هؤلاء العظماء، و احترام مقامهم، و لکن من المحظور أن نرفع مقامهم إلى مقام الألوهیة و الربوبیة بأی حال من الأحوال، و لا نجعلهم على قدم المساواة مع الله سبحانه.
إضافة إلى ذلک نحن مکلفون باستلهام الدروس و العبر من سیرة هؤلاء العظماء و أن نعتبر وجودهم و مراتب کمالهم فی الوجود منحة إلهیة، حتى لا نقع فی حبائل الغرور و التکبر.
الآیة الکریمة 8 من سورة الأنفال المبارکة و کذلک الآیة 49 من سورة یونس المبارکة و أمثالها من الآیات الأخرى إنما تنفی الاستقلال عن شخص النبی فی الوجود و الفعل لا غیر، و عند ما ینتفی مثل هذا الاستقلال عن الشخص الأول فی عالم الإمکان فمن الأولى أن ینتفی بالنسبة لسائر الناس و سائر الموجودات تبعاً لذلک.
و هذه الآیة الکریمة هی تفسیر لعدد من الآیات من أمثال الآیات 64 و 79 و 80 من سورة آل عمران المبارکة و التی تنفی ادعاء الربوبیة و الألوهیة من قبل أنبیاء الله الحقیقیین الصادقین، و تنهى الناس من أن یعتقدوا بهذا الأمر. و هنا -فی الآیة- النبی بدلاً من أن یجعل من نفسه هو الفاعل و المالک و صاحب الاختیار المطلق و المستقل عن الله سبحانه، و بدلاً من ادعاء الربوبیة و الألوهیة على الناس نجده یعلّق وجوده بتمام شؤونه و مستلزماته بالله سبحانه و إنما ذکر النفع و الضرر فی الآیة على سبیل المثال.و من جهة کونهما الفرد الأبرز فی حیاة الإنسان. لأن الهدف عند أغلب الناس فی جمیع أفعالهم هو جلب المنافع لنفسه و دفع الأضرار عنها، لا غیر. و إلا فإن کل الشؤون الوجودیة للموجودات و جمیع أفعالها و کمالاتها هی من الله سبحانه و لیس فقط جلب المنافع و دفع الأضرار.
ان اساس و جوهرة التوحید الافعالی و الصفاتی ( ان جمیع کمالات الموجودات هی منحة الهیة و الله هو الکمال المطلق و منبع الکمال و مفیضه) یکمن فی اعتقاد الانسان بأن نفسه و کماله و قدرته و فعله من الله سبحانه و على الإنسان أن یعلم ذلک و یعتقد به، و لا یجعل من نفسه محوراً مستقلاً أو محوراً آخر مع الله، و إذا ما أصابه خیر :
أ- لا یکونن من أمثال قارون الذی یرى نفسه کل شیء حتى قال: "قَالَ إِنَّمَا أُوتِیتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِی أَوَلَمْ یَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَکَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَکْثَرُ جَمْعاً وَلا یُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ"[1].
ب- لا یکونن من أمثال الأقباط قصیری النظر الذین جعلوا من الآخرین کل شیء حتى اعتقدوا بألوهیة فرعون و ربوبیته.[2]
ج- و لا یکونن من أمثال فرعون و نمرود و ظنه أنه مطلق الاختیار فلا یرکن إلى مقولة فرعون الذی رفع عقیرته قائلا (أَنَا رَبُّکُمُ الْأَعْلَى).[3]
د- و لا یعتقد أن ما أصابه من خیر هو من غیر الله و من دون إذنه، إلا أن یعتبر الغیر و سیلةً و واسطة للفیض الإلهی (و حذار من القول أن مشکلتی یحلها الله أولاً و فلان ثانیاً) فیکون فی هذه الحالة مشرکاً لا موحداً، بل لا بد من شکر الله فی جمیع الأحوال و الاعتقاد بأنه هو المفیض و المعطی للقوة و الکمال و القدرة و أنه هو الذی یعالج المشاکل و یحلها بوسیلة من الوسائل و واسطة من الوسائط.
و هذا هو الدرس الذی تقدمه لنا هذه الآیات و أمثالها، و إن شخص النبی الأکرم (ص)هو القدوة و المثل الأعلى للناس فی هذا المیدان، حتى یتخلقوا بأخلاقه فکلما کان أکثر تقدماً و رقیاً تکون معرفتهم و تواضعهم أکثر بالنسبة للحق تعالى و یتوالى شکرهم للنعم الإلهیة أکثر فأکثر.[4] و على هذا الأساس فإن هذه الآیات التی تنفی مقام الربوبیة و المالکیة على الاستقلال عن النبی الأکرم فإنها لا تتنافى بأی حال من الأحوال مع الآیات التی تحثنا على التمسک به و الرجوع إلیه و طلب الحاجات و الشفاعة و الشفاء و... منه (ص)، کما أنها لا تتنافى مع ما نسب إلى العظماء من مقامات و أمور فی طول فعل الله و بإرادته و إذنه، و ذلک لان النفی هنا للاستقلالیة و فی الآیات الاخرى اثبات الفاعلیة الطولیة ای الفاعلیة فی طول فاعلیة الله، و مثال ذلک المعجزات التی جاء بها عیسى بن مریم (ع)، فهی و إن کانت تنسب إلیه لکنها مقیدة بقوله "بإذنی"[5] و ذلک لنفی توهم الألوهیة و الاستقلال التی نسبها إلیها الناس.
و إذن لا بد من التوجه إلى أن إدراک مقامات الأولیاء و الاعتراف بالکرامات الصادرة عنهم لا یوجب الاعتقاد بأنهم یؤثرون بشکل مستقل عن الله سبحانه.
و لکن على الرغم من الاحترام اللائق بمقام هؤلاء العظماء لا بد من حفظ الفارق بینهم و بین الخالق و الاعتقاد بأنهم عباد مرتبطون بالذات المقدسة بکل وجودهم. و یکون شکرنا و عبودیتنا لله وحده لا شریک له.
للإطلاع بشکل أوسع یراجع:
جوادی آملی، عبد الله، مراحل اخلاق در قرآن" مراحل الأخلاق فی القرآن"، منشورات الإسراء، قم.
العلامة الطباطبائی محمد حسین، بررسىهاى اسلامى" دراسات إسلامیة"، منشورات الهجرة، قم، ص 269 – 277.
وانظر: تفسیر المیزان و سایر التفاسیر ذیل الآیات 8 الأنفال، و 49 یونس، و کذلک آیات79- 80 و 64 آل عمران.