Please Wait
7200
الإنسان موجود ممکن أی أن أصل وجوده و کل ما یتعلق من شؤونه فی هذا الوجود یحصل علیه من الله سبحانه، و إن الله سبحانه - و من خلال إرادته التکوینیة - خلق الإنسان مختاراً و ذا إرادة و بهذه الخاصیة الفریدة فضله على سائر مخلوقاته. فالإنسان إذن هو أفضل الموجودات و هو المخاطب بإرادة الله التشریعیة و قد أعطی الحریة و اتخاذ القرار فی میدان الطاعة و العصیان و اختیار طریقه و رسم مصیره فی مستقبله.
فالإنسان یستطیع بحسن اختیاره أن یمتثل أوامر الحق تعالى و ینطلق فی سیره التصاعدی من خلال تطبیق إرادته مع إرادة الله التشریعیة و تطبیق رضاه مع إرادة الحق التکوینیة حتى یصل إلى مقام خلافة الله فی الأرض، ثم ینتهی إلى الجنة فیعطیه الله فیها کل ما یرید و یشتهی، و حیث أنه اختار رضا الله سبحانه فسوف یکون نصیبه رضا الحق تعالى، فیدخله الجنة و یثیبه فیها عطاءً بقدر یبعث فی نفسه السرور و الرضا و الغبطة لما یرى من فیض الله و نعمائه. و من جانب آخر یستطیع الإنسان و بسوء اختیاره أن یسلک طریق العصیان و العناد إزاء الأوامر الإلهیة فینحط فی سیره النزولی حتى یسقط فی درکات سقر، و هذه هی نتیجة عدم تطبیق الإنسان لإرادته مع إرادة الحق التشریعیة، و لکن هذا العصیان و التمرد لا یعنی غلبة ارادة الانسان للإرادة الإلهیة، لأن الله سبحانه هو الذی أراد للإنسان أن یکون مختاراً فی انتخاب طریقه. و محصلة القول هی: إن إرادة الله نافذة فی جمیع الموجودات و من ضمنها الإنسان و ما یقوم به من أفعال، فلا شیء خارج عن السیطرة الالهیة، و لکن هذه الإرادة تجتمع مع ارادة الإنسان على نحو الطولیة، و لیس یعد هذا الاجتماع بین الإرادتین من مقولة اجتماع علتین تامتین مستقلتین على معلول واحد فی عرض واحد الذی هو محال قطعا، و لکن المسألة بناء على القول بالتوحید الأفعالی یکون الفاعل الوحید المستقل فی هذا الوجود هو الله سبحانه و أن سائر الموجودات متعلقة و مرتبطة بالحق تعالى سواء فی وجودها أو فی أفعالها، و یدخل تحت هذا القانون إرادة الانسان فانها لا یمکن أن تنفک عن إرادة الله و تعمل بشکل استقلالی. إذن فنحن لا نقبل الجبر کالأشاعرة القائلین بأن إرادة الحق هی الحاکمة مطلقاً من دون أی تأثیر لما سواها من الارادات و إنما الموجودات بمنزلة الآلات التی تحرکها إرادة الله. و هذا ما لا نقبله.
و من جانب آخر فلسنا نقبل التفویض کالمعتزلة الذین فصلوا و فرقوا بین إرادة الله تعالى و إرادة الإنسان، حیث جعلوا إرادة الإنسان هی کل شیء فی اختیاره و أفعاله.
و لکننا و من خلال هدی القرآن الکریم و تعالیم الأئمة الأطهار(ع) سلکنا طریقاً وسطاً فقلنا: إن الإنسان مختار و ذو إرادة و مسؤول عن أعماله و فی نفس الوقت هو خاضع لإرادة الله و قدرته و محکوم لسیطرته، و هو محتاج بتمام معنى الاحتیاج إلى قدرة الله و إرادته جل جلاله.
إن إرادة الإنسان واقعة فی طول إرادة الله و مشیئته، و بهذا فإرادة الإنسان مرتبطة بإرادة الله و لا یمکن أن تکون مستقلة و فی غنىً عن الحق تعالى، و هذا ما تدل علیه الکثیر من آیات القرآن الکریم، منها: {وَ مَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ یَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِینَ}[1]، و لکن هذا المعنى لا یتنافى بأی شکل من الأشکال مع القول بأن الإنسان مختار و أنه مسؤول عن أفکاره و أعماله و نوایاه، و ذلک لأن الإنسان هو الفاعل المباشر لکل ما یصدر عنه و لکن کل ذلک یتم بالاستفادة من القوة و الإمکانات التی وهبها الله له و وضعها بین یدیه و من الإذن بالاختیار الذی جعله له، و لذلک تصرح الکثیر من الآیات القرآنیة بنسبة الأفعال الطبیعیة إلى فاعلیها و من جملتها الإنسان الذی تعتبره الآیات مسئولاً عن أعماله، و بذلک تعیَّن التکلیف علیه و ترتب الوعد و الوعید على أساس ذلک کقوله تعالى: {وَ أَنْ لَیْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}[2] و قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَسَاءَ فَعَلَیْهَا وَ مَا رَبُّکَ بِظَلامٍ لِلْعَبِیدِ}[3]، فإذا قلنا ان الإنسان مستقل تماماً فإن ذلک لا ینسجم مع التوحید الأفعالی و احتیاج کل الموجودات إلى الله سبحانه، و إذا قلنا بإن الإنسان مجبور و مسلوب الإرادة فذلک لا ینسجم مع التکلیف و الأمر و النهی و الوعد و الوعید و عدل الله و حکمته، إذن فلا بد من الجمع بین آیات القرآن لنجعل من بعضها مفسراً للبعض الآخر حتى لا نقع فی مشکلة الجبر أو التفویض.
و توضیح هذا المطلب یحتاج التوجه إلى أمرین:
أ- اقسام اجتماع العلل على معلول واحد.
ب- أنواع الاعتبارات بالنسبة للإرادة الإلهیة.
أ- اجتماع العلل على معلول واحد یمکن أن یفترض على عدة أنحاء:
فوجود أی موجود : تارة یکون معلولاً لعلة واحدة، مثال ذلک:
الف - صدور بعض الموجودات عن الله تعالى بشکل مباشر دون تدخل أی موجود ممکن، و لا احتیاج إلیه و لا اشتراکه.
ب-و مثل ارتباط تخیلات الإنسان و أوهامه بالنسبة إلى نفسه.
و تارة اخرى تتعدد العلل و تتداخل فی إیجاد موجود ما، و هذا الفرض یتصور على عدة أنحاء:
1- اشتراک العلل جمیعاً فی إیجاد المعلول، أی أن کل واحدة منها هی (علة ناقصة) فی الإنفراد کما هو المصطلح و هی (علة تامة) فی حال اجتماعها، کما یدخل الماء و النور والحرارة و الأرض و المزارع فی إیجاد شجرة ما. و فی مثل هذا الفرض لا یکون اجتماعها غیر مستحیل فقط، و إنما حضورها بتمامها و اشتراکها هو شرط لازم لإیجاد المعلول.
2- تأثیر العلل على نحو البدلیة، کما هو الحال فی محرکات الطائرة، فالجمیع یشترک فی إیصال الطائرة إلى مقصدها، ولکن لا على الاشتراک بل التبادل، فیعمل أحد المحرکات فی وقت معین، و بعد أن یطفأ یحل المحرک الآخر محله لیتولى مهمة دفع الطائرة و حرکتها حتى تصل إلى مقصدها.
و فی هذا الفرض فإن تعاون العلل و اشتراکها لا محذور فیه، بل إن الاشتراک هنا لازم لبقاء المعلول. و لکن فی هذا الفرض لا وجود للارتباط الخاص بین العلل، خلافاً للفرض الثالث.
3- ارتباط العلل مع بعضها فی التأثیر، و لکن لا وجود للترتب فیما بینها فی الوجود، و مثاله مدخلیة الإرادة و القصد و حرکة الید و... فی إیجاد (کتابة شیء ما) أو کتبعیة الجندی لآمره و من له تأثیر علیه.
و فی هذا الفرض فإن اشتراک العلل مع بعضها و ترابط تأثیرها و عملها لا یلزم منه أی محذور.
4- تأثیر مجموعتین من العلل، أو کما فی الاصطلاح بعنوان اجتماع (علتین تامتین) على معلول واحد من جهة واحدة، مثل: کتابة مکتوب معین و مشخص بتمامه على قطعة ورقیة معینة من قبل کاتبین و فی آن واحد، أو وجود شجرة معینة فی آن واحد من قبل مجموعتین من العلل المتمثلة بالأرض و المزارع و البذور و....
و فی مثل هذا الفرض یقع (التمانع) و المحال، لأن عمل کل واحدة من العلل مانع لعمل الأخرى، و علیه فالعلة الأخرى إما أن لا یکون لها عمل أصلاً، و هذا خلاف الفرض حیث فرضنا اجتماع علتین على معلول واحد، و إما تتزاحم العلتان فتمنع أحداهما عمل الأخرى فلا یوجد المعلول و علیه فلا اجتماع لعلتین على معلول واحد، و بما أن هذا الفرض هو من المحالات الذاتیة فلا وجود لمصداق عینی له.
5- تأثیر عدة مجموعات من العلل على معلول واحد على نحو الطولیة، أی أنها على نحو تراتبی فی أصل وجودها، کمدخلیة الأجداد و الجدات و الآباء و الأمهات فی إیجاد الأولاد. و على أساس الفروض المتقدمة لا بد من تشخیص و تصنیف ما قلنا من اجتماع علیّة و فاعلیة و إرادة الله سبحانه مع علیة و فاعلیة و إرادة الموجودات و من جملتها علیة و فاعلیة و إرادة الإنسان. فمن أی قسم یمکن أن یکون هذا الاجتماع؟
إذا فرضنا أن هذا الاجتماع من قبیل النوع الأول أو الثانی أو الثالث، أی بمعنى الاستقلال الوجودی للإنسان و سائر الموجودات عن الله سبحانه، فهذا ما یتنافى و مقولة التوحید الأفعالی و لا یمکن قبوله بالنظرة الدقیقة.
و کذلک لا یمکن لهذا الاجتماع أن یکون من النوع الرابع، لأن المورد المذکور لا مصداق له، و إنه من المحالات الذاتیة، و الذین قالوا باستحالة اجتماع إرادة الإنسان مع إرادة الله توهموا أنها من هذا النوع، و لکن الحقیقة هی أن قطع ارتباط الإنسان بالله یعنی إلغاء لوجوده فضلاً عن کون الإنسان ذی فاعلیة تامة و عده علةً تامة و فی عرض علیة الحق و إرادته، فکیف یقال أن اجتماعهما على معلول واحد محال!
وفی النهایة: لا یبقى إلا الفرض الأخیر، أی أن إرادة الإنسان هی طول إرادة الله و فاعلیته فی طول فاعلیة الله.[4] و لکن بیان کون اجتماع الإرادات على نحو الطولیة لا یتنافى مع اختیار الإنسان و إرادته، یحتاج الى الإشارة إلى أقسام و أنواع الإرادة الإلهیة.
ب) لحاظات الإرادة الإلهیة و اعتباراتها:[5]
تلحظ الإرادة الإلهیة بشکل کلی باعتبارین: إرادة ذاتیة و إرادة فعلیة، و تنقسم الإرادة الفعلیة إلى إرادة تکوینیة و إرادة تشریعیة.
1- الإرادة الذاتیة: و هی الإرادة التی تنسب إلى الله من دون لحاظ الإنسان و علاقته بالله سبحانه و هی عین ذاته و هی تلازم کونه مختاراً غیر مقهور و لا مغلوب فی مقابل الغیر، و عدم احتیاج و اضطرار الذات الإلهیة لسائر الموجودات. و فی هذا اللحاظ لا مدخلیة للإنسان و ارتباطه بالله فلا یتصور اجتماع إرادته بإرادة الله تعالى.
2- الف : الإرادة الفعلیة التکوینیة:
و تتبلور هذه الإرادة الإلهیة فی القضاء والقدر العینیین[6]، و القوانین و الأنظمة التی تتحکم بعالم الوجود من خلال إیجادها و طریقة عملها و حتمیتها و تتجلى أیضاً بخلقه للمخلوقات على مختلف أشکالها و أحوالها و أدوارها المختلفة، کل ذلک فی نطاق إرادة الله الفعلیة التکوینیة.
ففی عالم الوجود تکون إرادة الله التکوینیة هی الحاکمة على الموجودات بما فیها الإنسان، و لا یمتلک أی موجود أی نوع من الاختیار و الإرادة أو الخروج و التخلف عن هذه الإرادة. کما یقول تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَ هِیَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ ائْتِیَا طَوْعاً أَوْ کَرْهاً قَالَتَا أَتَیْنَا طَائِعِینَ}[7]، وقوله تعالى: {إِنْ کُلُّ مَنْ فِی السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِی الرَّحْمَنِ عَبْداً}[8]، فکل ما فی الأرض و السماء إنما هو طوع إرادة الله و رهن إشارته.
و على أساس إرادة الله الفعلیة التکوینیة خلق الله الإنسان کموجود مختار ذی إرادة، لا یتمکن أن یسلب من ذاته إرادته و اختیاره، فسواء أراد أم لم یرد فهو مختار ذو إرادة ینتخب طریقه بنفسه و یحدد مصیره على أساس اختیاره، و ذلک یماثل عدم مدخلیته فی اختیار أمه و أبیه أو جنسیته و انتمائه أو شکله أو قوامه.
ب. الإرادة الفعلیة التشریعیة: و هذه الإرادة تعنی أن الله هو الذی یضع القانون لهذا الإنسان المختار صاحب الإرادة، فلا شریک لله سبحانه و تعالى فی أصل تشریع القوانین بالنسبة للإنسان، و لیس لأحد أن یبدل أو یغیر فی هذه القوانین حتى تبلغ للناس، و على هذا الأساس فالمَلَک و النبی و الوصی مکلفون بتبلیغ و إیصال عین هذه الإرادة إلى الناس من دون زیادة أو نقصان، و قد أذن الله لهم فی هذا الإطار بتبیین و تفسیر هذه التشریعات.
و لکن هذا الإنسان أعطی القدرة و الاستطاعة على الطاعة و العصیان فی میدان التطبیق و التنفیذ لهذه التشریعات، و من هو فی استطاعته و بحسن اختیاره أن یوحد إرادته مع إرادة الله سبحانه فیرضى بإرادة الله التکوینیة و یطیعه إطاعة تامة و محضة فی إرادته التشریعیة و بهذا یبلغ الإنسان سعادته النهائیة و یستحق العیش الرغید و الاطمئنان التام فی عالم الآخرة، هناک حیث یستجیب الله سبحانه لکل رغبات الإنسان و مراده فیؤمنها بأسرع ما یمکن.
{وَالَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِی رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا یَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ}[9] و حیث أن هؤلاء قدموا رضا الله و رجحوه على رضاهم فسوف یرضیهم الله و یعطیهم من نعیم الجنة ما یرضیهم عن أنفسهم و عملهم و عن ربهم.[10]
إذن، فباستطاعة الإنسان و من خلال اختیاره أن یرید ما یریده الله و یرضى برضا الله فی عالم التکوین و عالم التشریع و لم یطلب و لم یرد إلا ما یریده الله له و ما یرتضیه و یحمده.[11] و على هذا الأساس فإن الإنسان قد أراد ما أراده الله تکویناً و تشریعاً، و إن إرادة الإنسان هذه و قدرته هی طبق لإرادة الله التکوینیة و هی من فیضه تعالى على الإنسان، و إن وجوده و إرادته هی فی طول وجود و إرادة الحق تعالى، و لا وجود لأی محذور فی اجتماع هذین الإرادتین و لا یلزم من اجتماعهما أی محال.
و هذا الاجتماع لا هو من قبیل اجتماع علتین تامتین على معلول واحد و لا هو من قبیل سلب الإنسان لإرادته و اختیاره، فالله هو الذی أعطى الإنسان الإذن بالإرادة و الاختیار و الإنسان هو الذی اختار طریقه بنفسه، فأراد ما کان مراداً لله سبحانه.
و أما إذا سلک طریق العصیان و التخلف عن إرادة الله التشریعیة و ارتکب من الأعمال ما یسخط ربه و یثیر غضبه فهذا من اختیاره أیضاً و بعمله هذا رسم لنفسه عاقبة سیئة و مصیراً مظلماً. و لکن هذا التخلف لا یکون خارجاً عن إرادة الله التکوینیة، لأن الله بإرادته التکوینیة خلق الإنسان مختاراً ذا إرادة له القدرة على تخطی و عصیان إرادة الله التشریعیة. و لکن هذا التخطی و العصیان لا یعنی قهر الإرادة الإلهیة و التغلب على قدرته لأن الله قادر و فی أی لحظة على أن یسلب هذه القدرة والارادة من هذا الإنسان العاصی و لذلک یقول سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِینَ یَعْمَلُونَ السَّیِّئَاتِ أَنْ یَسْبِقُونَا سَاءَ مَا یَحْکُمُونَ}[12].
و نتیجة القول فی الإرادة التکوینیة و فی أصل التشریع لا إرادة للإنسان و علیه فلا تجتمع الإرادتان، و أما فی تطبیق الإرادة التشریعیة فإن إرادة الإنسان تکویناً فی طول الإرادة الإلهیة، و فی حال الطاعة والامتثال فباختیاره جعل مراده مطابقاً لمراد الله سبحانه فرضی بإرادة الله التکوینیة، و بحسن اختیاره هذا یکون قد کتب بنفسه سر سعادته. و فی حال عصیانه لم یجعل من مراد الحق مراداً له فلا یضر بعمله هذا إلا نفسه، و لم یحدث بذلک أی خلل فی نظام الخلق و لا یصل إلى الله سبحانه أی ضرر منه، لأن الله بإرادته التکوینیة أعطى الإنسان القدرة على العصیان والتخلف عن الطاعة و حذره فی إرادته التشریعیة من الانحراف و العصیان، و لکنه و بسوء اختیاره لم یراع ذلک فجعل من نفسه مبغوضاً عند الله، و إذا ما توهم الإنسان و اغتر و فکر أنه بعصیانه و انحرافه سوف یغلب إرادة الله أو النیل من قدرته فذلک محال و الواقع خلافه، لأنه فی جمیع الأحوال- بما فی ذلک حالة العصیان- لم یخرج من دائرة حکومة الله و قدرته و إرادته ولم یکن بأی حال من الأحوال غنیاً عن ذات الله المقدسة.
و من هنا یقول الحق تعالى: {مَا أَصَابَکَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَ مَا أَصَابَکَ مِنْ سَیِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِکَ} و کذلک {قُلْ کُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}[13] لأنه لا یمکن أن یتحقق شیء من دون إرادته، و لکنه لا یرضى لک السیئة و إنما أردتها أنت بنفسک و بسوء اختیارک.
و من الطبیعی الاعتراف بأنه من الصعب تصور الموضوع لأن ارتباط اختیار الإنسان و إرادته بالمشیئة الإلهیة و نظام عالم الوجود الذی لا یتغیر هو أمر صعب من الأساس، و من هنا فإن من یقطع صلته بالوحی و علوم أهل البیت(علیهم السلام) فأما أن یقع فی التفریط و یکل الإنسان إلى نفسه، و یجعل من إرادته لأفعاله هی کل شیء دون أی ارتباط بالله کما هو قول المعتزلة و من هنا أطلق علیهم اسم المفوّضة، و أما أن یقع فی الإفراط فیجعل من الإنسان مخلوقاً مجبراً لا إرادة له و لا اختیار، کما قال الأشاعرة الذین عرفوا بالمجبرة.
و أما الحقیقة و الصراط المستقیم فهو القول بالأمر بین الأمرین، أی لا جبر و لا تفویض، بل تجمع إرادة الله التکوینیة مع إرادة الإنسان الأفعالیة على نحو الطولیة، و إذا ما أطاع الإنسان فقد تطابقت إرادته مع الإرادة الإلهیة التشریعیة، و أما فی حالة عصیان الإنسان فإن إرادته و فعله یکون مکروهاً و مبغوضاً عند الله، و لکن هذا العصیان و التمرد لا یعنی خروج الإنسان عن حکومة الله و سیطرته و قبضته و لیس ذلک من باب الغلبة لإرادة الله و قدرته، و لا معنى لذلک إلا خروج الإنسان عن رحمة الله من جهة سوء اختیاره و انتخابه و قدرته.
للتوسع فی ذلک یراجع:
مصباح الیزدی محمد تقی، آموزش عقاید" تعلیم العقائد"، ج 1-2 ، منظمة التبلیغ الإسلامی، قم، الطبعة الثانیة 1370 .
مصباح الیزدی محمد تقی، معارف قرآن" معارف القرآن" ج1-3 مؤسسة فی طریق الحق، قم، الطبعة الثانیة، 1367 ص 195 – 212 و 33-147 و 293 – 374.
[1] التکویر: 29، الدهر: 30 و 31.
[2] النجم: 39.
[3] فصلت: 46.
[4] انظر مصباح الیزدی، محمد تقی، آموزش عقاید "تعلیم العقائد"، ج 1-2، الدرس 19، ص 184 و کذلک و ص 87-90 و ص 164-166.
[5] نفس المصدر ص 112-114 الدرس 11 و...
[6] نفس المصدر ص 180 – 187 الدرس 19.
[7] فصلت: 11.
[8] مریم: 93.
[9] الشورى: 22، ق: 35. النحل: 31، الزمر: 34، الفرقان: 16.
[10] البینة: 8، المجادلة: 22، التوبة: 100، المائدة: 119.
[11] التکویر: 29، الدهر: 30.
[12] العنکبوت: 4، الزمر: 51، و ....
[13] النساء: 78 – 79.