Please Wait
10029
إن ظاهر الآیة المشار إلیها یدل على جواز بناء المساجد على القبور و قد ورد فی التفاسیر أن مسجداً بنی بجوار مرقد أصحاب الکهف.
و من الجدیر بالذکر وجود روایات ظاهرها المنع من بناء المساجد فی هذه الأماکن، و لکن بالالتفات إلى هذه الآیة و الروایات المانعة یمکن القول أن مفاد النصوص المانعة تؤکد على أمرٍ واحد و هو عدم تبدیل هذه القبور إلى بیوتٍ للأوثان و الأصنام و لا یوجد فیها أثر لعبادة الله تعالى. و هذا الأمر منتفٍ فی مسألة بناء المساجد جنب القبور و عبادة الله فی تلک المساجد، و أن الصلاة باتجاه القبلة صحیحة، و أن وجود الحائل بین المصلی و القبلة کالأضرحة و القبور و غیرها لا یؤثر فی صحة الصلاة.
یمکن تفکیک سؤالکم إلى عدة أسئلة فی واقع الأمر و من اللازم معالجة جمیع هذه التشعبات لیکون الجواب مناسباً و شافیاً.
1ـ هل أن الآیة المشار إلیها فی سورة الکهف ناظرة إلى أصل بناء المساجد على القبور أم لا؟
2ـ هل من الممکن أساساً وجود بعض المناطق المتمیزة و ذات القیمة الاستثنائیة فتکون أماکن للتبرک؟
3ـ هل أن الصلاة و العبادة إلى جانب القبور، تنافی العبودیة لله حتى مع فرض کون القبر إلى جهة القبر؟ و ما هو نظر الشیعة فی المسألة اعتماداً على أقوال الأئمة المعصومین؟
أما فیما یخص القسم الأول الخاص بالآیة 21 من سورة الکهف فإنها تصرح بشکل واضح بأن المؤمنین صمموا على اتخاذ مسجد مجاور لقبور أصحاب الکهف، و لم یرد اعتراض و لا انتقاد من القرآن على هذا العمل، فلو کان بناء المساجد عند القبور مخالفاً للدین و العقیدة لوبخ القرآن القائمین بهذا العمل و لأشار إلى خطأهم و انحرافهم عن الصواب! و هذا المعطى التاریخی ورد فی الکثیر من کتب أهل السنة[1]. و علیه فالآیة فی قوله تعالى: «لَنَتَّخِذَنَّ عَلَیْهِمْ مَسْجِدَاً» لیس فیها ما یدل على المنع عن هذا العمل. و قد ورد فی بعض تفاسیر أهل السنة بعد تفسیر الآیة المشار إلیها بعض الروایات التی تدل على منع بناء المساجد على القبور[2]. و کذلک ورد ما یشابه هذه الروایات فی مجامیع الشیعة[3].
و لذلک انشغل العلماء و المفکرون فی إیجاد حل لهذه المسألة فمن جهة لا یمکن إغفال دلالة الآیة على جواز بناء المساجد فی جواز القبور لصراحة دلالتها، و من جهة أخرى وجود مثل هذه الروایات التی تدل على المنع من جعل القبور قبلة.
و على هذا الأساس فلا بد من وجود حل للجمع بین الآیة و الروایات الدالة على منع مثل هذا العمل[4] و ذلک لرفع التعارض فیما بینهما.
أما بعض المفسرین من أهل السنة فأرادوا تبریر ما یعتقدون من حرمة و ممنوعیة بناء المساجد جوار القبور فقالوا: إن الذین بنوا المسجد جوار مثوى أصحاب الکهف هم من الکفار و حتى مع فرض کونهم من المؤمنین فإنهم قاموا بعمل غیر محمود[5]. و بهذا الجمع یبدو رفع الید عن ظاهر القرآن واضحاً. و هو نوع سعی لإزالة المسألة و رفعها من الأساس و لکن کما قلنا فإن عدم ذم القرآن و عدم توبیخه للقائمین بهذا العمل دلیل على تأیید عملهم.
أما العلامة المجلسی و هو من کبار علماء الشیعة فقد جمع بین الآیة و الروایات على الوجه التالی: «(لعن الله الیهود و النصارى اتخذوا قبور أنبیائهم مساجد)، کان یجعلونها قبلة یسجدون إلیها فی الصلاة، کالوثن، أما من اتخذ مسجداً فی جوار رجل صالح أو صلى فی مقبرة قاصداً بها الاستظهار بروحه، أو وصول أثر من آثار عبادته إلیه لا التوجه إلیه و التعظیم له، فلا حرج علیه، ألا یرى أن مرقد إسماعیل فی الحجر فی المسجد الحرام و الصلاة فیه أفضل»[6]. و أما بعض مفسری السنة فقد أخذوا هذه المسألة بنظر الاعتبار فقالوا: إن هذه الروایات لا تنافی اتخاذ المساجد لدى القبور و التبرک بها[7]. و المحصلة على هذا الأساس هی: لا ینبغی بناء المساجد على القبور و اتخاذها کبیوت الأوثان و الأصنام و اتخاذها قبلة. و لکن بناء المساجد حول القبور و الصلاة فیها باتجاه القبلة التی أمرنا الله بالتوجه إلیها لا إشکال فیه. و الشاهد الآخر الذی یمکن اعتباره مؤیداً لهذا الرأی هو أن النبی(ص) و اثنین من صحابته دفنوا من قبل المسلمین قریباً من مسجد النبی، و فی التوسعة الأخیرة صارت القبور الثلاثة ضمن فضاء المسجد النبوی، و لم یمنع أی عالم من الصلاة فی مسجد النبی مع أن القبور صارت جزءاً منه من الناحیة العملیة، و لم یستند أحدٌ إلى الروایات المانعة، و أن الصلاة التی تقام فی مسجد النبی الآن لا تختلف عن الصلاة التی یقیمها الشیعة فی مراقد الأئمة(ع).
القسم الثانی:
و أما فیما یخص القسم الثانی فیجب دراسة عدة مواضیع و تحلیلها بشکلٍ صحیح لأننا المسلمون نعتقد:
1ـ أن الله سبحانه لا یکون فی جهة أو مکان معین، «وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَیْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ»[8].
2ـ إن الله تعالى اتخذ موضعاً معیناً یتجه إلیه العباد فی صلاتهم و ذلک من أجل تنظیم عباداتهم، و أن المسلمین صلوا فی زمن النبی إلى قبلتین إحداهما بیت المقدس و الأخرى مکة المکرمة. و بعبارة أخرى إن القبلة لیست قیمتها فی ذاتها، و إنما القیمة فی عبادة الله و إطاعته، و هذا ما أشار إلیه القرآن بشکل صریح[9].
3ـ نحن لا نسجد إلا لله تعالى کما أمرنا أئمتنا (ع)، أما السجود باتجاه شیءٍ معین أو شخص ما فلا یعنی العبادة للشیء أو الشخص، و هل أننا نعبد الکعبة عندما نتوجه إلیها فی صلاتنا؟! ام نعبد رب الکعبة؟
و هل أن الله حینما أمر الملائکة بالسجود لآدم[10] أمرهم بالشرک و العیاذ بالله، و أن الشیطان هو الموحد الوحید حینما رفض السجود فخرج ناجحاً من هذا الاختبار، و هل أن الملائکة ترکوا عبادة الله و اتجهوا إلى عبادة آدم؟
إننا نعتقد أن السجود طاعة لله، و إذا أمرنا الله تعالی بالسجود لشیء فإننا نسجد، و نعد عملنا هذا من الطاعة و الخضوع لله تعالى. إننا نعتقد أن عدم إطاعة الله هی الشرک لا القبلة و السجدة، کما أننا نعتقد الآن أن إطاعة الله فی اتخاذ الکعبة قبلة و لا نسجد إلا لله تعالى.
4ـ نعتقد أن السموات و الأرض لله، و أننا إذا أدینا عبادتنا فی بعض الأماکن المقدسة فإننا سوف نحصل على ثواب أکثر، کالعبادة فی المسجد الحرام و مسجد النبی(ص)، و کما قال النبی(ص): «صلاة فی مسجدی هذا أفضل من ألف صلاة فیما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام»[11]. و هذا یدل علی أن بعض الأماکن لها خصوصیات و امتیازات بالنسبة لأداء العبادة فیها.
و بنظر المذهب الشیعی فإن الصلاة و العبادة لها مردود أکبر إذا ما أقیمت فی جوار مراقد الأئمة المعصومین (ع) إضافة إلى الأماکن التی تقدم ذکرها. و أن الأطر التی تحدد بها هذه العبادات و الزیارات لا تدل على أی شائبة من شوائب الشرک.
و مع أن بیان فوائد الزیارة لا یدخل ضمن الإجابة عن سؤالکم و إذا کانت لدیکم الرغبة فی الاطلاع على هذا الموضوع فبالإمکان الرجوع إلى التحقیقات و الدراسة المتعلقة فی هذه المسألة و من جملتها السؤال 3295 فی هذا الموقع.
و أما بخصوص الإجابة على القسم الثالث من سؤالکم فلا بد من الإشارة إلى عددٍ من الروایات المتعلقة فی هذا المورد:
1ـ « ذکر حسن بن حسین بن طحال المقدادی رضی الله عنه أن زین العابدین (ع) ورد إلى الکوفة ودخل مسجدها و به أبو حمزة الثمالی، و کان من زهاد أهل الکوفة و مشایخها، فصلى رکعتین و ذکر دعاءً إلى أن قال: فتبعته إلى مناخ الکوفة فوجدت عبداً أسود معه نجیب و ناقة، فقلت: یا أسود من الرجل؟ فقال: أو تخفى علیک شمائله هو علی بن الحسین علیه السلام قال أبو حمزة: فأکببت على قدمیه أقبلهما فرفع رأسی بیده و قال: لا یا أبا حمزة، إنما یکون السجود لله عز و جل، فقلت یا ابن رسول الله ما أقدمک إلینا؟ قال: ما رأیت، و لو علم الناس ما فیه من الفضل لأتوه و لو حبواً ...»[12].
2ـ «عن أبی الیسع، قال: سأل رجل أبا عبد الله و أنا أسمع قال: إذا أتیت قبر الحسین (ع) أجعله قبلة إذا صلیت؟ قال: تنح هکذا ناحیة»[13].
3ـ توجد روایات توصی الزائرین أن یقفوا باتجاه الرأس من قبور الأئمة الأطهار و یؤدوا الصلاة[14]. فإذا تشرف الإنسان بزیارة مراقد الأئمة (ع) فاعلموا أن أفضل شیءٍ یأتی به الزائر الصلاة فی المکان المعروف أعلى الرأس. و لعل العلة فی ذلک هو عدم جعل قبور هؤلاء العظام عند ظهر الزائر مما یشکل تجاوزاً أو تجاسراً على حرمة هؤلاء العظماء، و لعل ذلک ولد تصوراً خاطئاً إننا نتخذ من القبور قبلة، فی حین نقف إلى جانب هذه القبور و نصلی إلى القبلة و هذه الروایات إنما تدل على أن احترام النبی (ص) و الأئمة (ع) أمرٌ محمود سواء کان ذلک فی حیاتهم أم بعد مماتهم، کما أننا نعتقد أن مقامهم و مکانتهم أعظم من مکانة الشهداء الذین صرح القرآن بأنهم أحیاء عند ربهم یرزقون[15]. و على هذا الأساس نعتقد أن الرسول (ص) و الأئمة (ع) أحیاء یسمعون کلامنا و یردون سلامنا، و لا یدل هذا التعظیم على أننا غافلون عن ذکر الله تعالى، و لذلک یوصینا الأئمة بالتکبیر مائة مرة قبل قراءة الزیارة الجامعة[16]. حتى لا ننسى عظمة الله، کما أن احترام هؤلاء فی حیاتهم و زیارة قبورهم بعد رحیلهم لیس لها أی أثر على عبادة الله.
و النتیجة هی التالی: أنه بالإمکان أداء الصلاة و العبادة و المناجاة عند قبور هؤلاء العظماء لله تعالى مع الأخذ بنظر الاعتبار جهادهم و مکانتهم و الاقتداء بسیرتهم. أما ما ذکرتم من أن أضرحة الأئمة قد تقع فی جهة القبلة فی بعض الأحیان فهذا صحیح. و لکن هل أنکم تعتقدون أنه فی حالة الزحام داخل المراقد فعلى المصلی باتجاه القبلة التی هی باتجاه الضریح أن یغیر مکان صلاته لیقف إلى جانب الضریح؟ و هذا ما لا یقوله أحد من المسلمین و مع أن الروایات المعتبرة تأمرنا بعدم اتخاذ القبور قبلة، و لکن لا أحد یقول أن الصلاة باطلة فی مثل هذه الحالة و غیر مشروعة.
و إذا أدى المصلون فی داخل المراقد صلاتهم باتجاه الضریح کما هی حال المصلین فی الکعبة حینما یشکلون حلقة علیها فعند ذلک یمکن أن یتهموا بأنهم جعلوا من القبور قبلة، أما عندما تؤدى الصلاة باتجاه القبلة و أن الضریح یکون بهذا الاتجاه فلا مانع من ذلک، و کل اتهام للمصلین من هذا القبیل إنما یکون خارج دائرة الإنصاف و هو منسوب إلى العناد! و هل یمکن اتهام المصلین خلف مقام إبراهیم أنهم یتوجهون إلى المقام لا إلى الکعبة؟! و لکن لو وجد بعض الجهال ممن ینحرف عن القبلة باتجاه القبر، فلا یحکم ببطلان صلاتهم من قبل الشیعة و حسب، و إنما ینهون و یمنعون من ذلک، و على فرض وجود مثل هذه الحالات النادرة –و هی غیر موجودة قطعا- فلا ینبغی أن تحسب على مذهب التشیع.
[1]الطبری، أبو جعفر محمد بن جریر، جامع البیان فی تفسیر القرآن، ج15، ص149، دار المعرفة، بیروت، 1412 ه ق.
[2]القرطبی، محمد بن أحمد، الجامع لأحکام القرآن، ج11، ص379، مطبوعات ناصر خسرو، طهران، 1364 ه ش.
[3]کمثال، راجع کتاب: الشیخ الصدوق، من لا یحضره الفقیه، ج1، ص178، الروایة 532، مؤسسة النشر الإسلامی، قم، 1413 هـ ق.
[4]القرطبی، المصدر نفسه، ج11، ص379.
[5]ابن کثیر، تفسیر القرآن العظیم، ج5، ص134 ـ 133، دار الکتب العلمیة، بیروت، 1419 هـ ق.
[6]المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار، ج79، ص56، مؤسسة الوفاء، بیروت، 1404 هـ ق.
[7]المظهری، محمد ثناء الله، التفسیر المظهری، ج6، ص25، المکتبة الرشدیة، باکستان، 1412 هـ ق.
[8]البقرة، 115.
[9]البقرة، 145ـ 142.
[10]البقرة، 34؛ الأعراف؛ 11؛ الإسراء، 61؛ الکهف، 50؛ و..
[11]القرطبی، محمد بن أحمد، الجامع لأحکام القرآن، ج10، ص372.
[12]الحر العاملی، محمد بن الحسن، وسائل الشیعة، ج14، ص 408 ـ 407، الروایة 19474، مؤسسة آل البیت، قم، 1409 هـ ق.
[13]المصدر نفسه، ج14، ص519، الروایة 19731.
[14]المصدر نفسه، ج14، ص519، الروایة 19730 و ص 520، الروایة 19732.
[15]آل عمران، 169.
[16]المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار، ج99، ص127.